الفرجات يقدم مقترحا حول تحلية السفن كخيار وطني عاجل.. ما هي تفاصيله؟

مقترح: تحلية السفن كخيار وطني عاجل، وحصة العقبة للمحافظات
كتب: أ.د. محمد الفرجات
لم يعد الحديث عن "شحّ المياه" في الأردن ترفًا لغويًا أو توصيفًا إعلاميًا، بل أصبح توصيفًا واقعيًا لأزمة وجودية تهدد الحياة اليومية لملايين الأردنيين. فبلادنا تدخل اليوم مرحلة "الخطر الأحمر المائي"، حيث تشير التقديرات إلى أن العام 2024/2025 سيكون الأكثر جفافًا في تاريخ المملكة الحديث.
فالسدود الكبرى كالوحدات، والموجب، والملك طلال لم تستقبل سوى كميات محدودة من مياه الأمطار، بعضها لم يتجاوز 10% من سعته التخزينية، في حين باتت خزانات المياه الجوفية العليا والمتوسطة العمق مهددة بالنضوب بعد عقود من الضخ الجائر دون تعويض طبيعي.
ولم يتبقّ سوى خزان الديسي العميق الذي يئنّ هو الآخر تحت الضغط، في ظل مؤشرات مقلقة لانخفاض نوعيته بسبب السحب المتزايد. وفي موازاة ذلك، يزداد تأثير التغير المناخي عامًا بعد عام، فتتناقص المواسم الماطرة، وتزداد فترات الجفاف الطويلة ودرجات الحرارة العالية، ما يعني أن مواردنا المائية التقليدية باتت عاجزة عن تلبية حاجات دولة تنمو سكانيًا وصناعيًا وسياحيًا.
مصدر الماء في العقبة... والفرصة التي لم تُستثمر بعد:
تُعد العقبة شريان الأردن البحري الوحيد، وبوابة التجارة والسياحة والصناعة، لكنها في الوقت ذاته تعتمد في مياهها بشكل أساسي على خط الديسي البري القادم من الجنوب، ما يجعلها عرضة لأي انقطاع أو خلل في الضخ.
وبينما تتزايد احتياجات العقبة مع توسع مشاريعها السياحية والصناعية والعمرانية الكبرى، قد تتراجع قدرة المصادر الجوفية والمياه المنقولة على تغطية الطلب المتنامي.
في ظل هذا الواقع الصعب، تظهر مبادرة البروفيسور إلياس سلامة كخيار استراتيجي وواقعي يعتمد على تحلية مياه البحر في العقبة عبر السفن العائمة — وهي فكرة علمية متقدمة قابلة للتنفيذ خلال أشهر، لا سنوات، وتفتح أفقًا جديدًا للاستقلال المائي في العقبة، وتحرير جزء من مياه الديسي لخدمة باقي المحافظات.
ما هي تقنية التحلية عبر السفن العائمة؟
تقوم فكرة سفينة التحلية على استقطاب وحدة بحرية ضخمة مجهّزة بمصنع متكامل لتحلية مياه البحر بتقنية التناضح العكسي (Reverse Osmosis)، وهي التقنية الأكثر كفاءة عالميًا في تحويل مياه البحر إلى مياه عذبة صالحة للشرب والاستخدام.
آلية العمل:
1. سحب المياه البحرية: تُسحب المياه من أعماق البحر الأحمر/خليج العقبة عبر أنابيب تمتد من السفينة إلى نقاط بعيدة عن الشاطئ لتجنب الرواسب.
2. المعالجة الأولية: يتم التخلص من الشوائب والعوالق والرمال والأحياء الدقيقة عبر مرشحات دقيقة.
3. التحلية: تمر المياه عبر أغشية الضغط العالي التي تفصل الأملاح والمعادن الثقيلة عن جزيئات الماء النقي.
4. المعالجة النهائية: تُضاف كميات محسوبة من المعادن الضرورية كالكالسيوم والمغنيسيوم لتحسين الجودة.
5. التخزين والضخ: تُضخ المياه العذبة مباشرة إلى خزانات الشاطئ ومن ثم إلى الشبكة المحلية في المدينة.
تتميز هذه التقنية بأنها:
قابلة للنقل والتشغيل السريع: يمكن تجهيز السفينة وتشغيلها في غضون أشهر قليلة.
مرنة: يمكن زيادة أو تقليل الإنتاج حسب الحاجة.
صديقة للبيئة نسبيًا: بفضل الأنظمة الحديثة لمعالجة الرجيع الملحي (brine) دون إلحاق الضرر البيئي بالبحر الأحمر.
اقتصادية على المدى المتوسط: فتكلفة المتر المكعب قد تنخفض إلى أقل من 0.8 دينار بعد التشغيل المستقر.
ماذا يعني تطبيق الفكرة في العقبة؟
إن تطبيق نظام التحلية عبر السفن في العقبة يحمل فوائد استراتيجية متشابكة على المستويين المحلي والوطني:
1. تحقيق الاكتفاء المائي للعقبة
بتحلية مياه البحر مباشرة، تصبح العقبة مدينة مستقلة مائيًا، قادرة على تلبية احتياجات سكانها ومشاريعها من المياه العذبة وبنفس الأسعار أو حتى أقل، ودون الاعتماد على خط الديسي أو خزانات داخلية مهددة بالنضوب.
2. تحرير حصة الديسي لصالح المحافظات
يمكن إعادة توجيه حصة العقبة الحالية من مياه الديسي إلى المحافظات الوسطى والشمالية التي تعاني نقصًا حادًا، مثل عمان والزرقاء والبلقاء والمفرق، مما يرفع الأمن المائي الوطني بنسبة ملموسة.
3. تخفيف الضغط عن الخزانات الجوفية
كل متر مكعب من مياه البحر المحلاة هو مكعب يُضاف إلى رصيدنا المائي دون استنزاف للطبقات الجوفية العليا والمتوسطة، التي تحتاج لعقود لتعويض نفسها طبيعيًا.
4. إسناد الأمن الغذائي والصناعي
وفرة المياه في العقبة ستنعكس على استقرار الخدمات، ودعم الصناعة والسياحة، وتحفيز استثمارات جديدة تعتمد على الاستدامة المائية.
نموذج عالمي ناجح:
تجربة تحلية السفن ليست جديدة على العالم. فقد استخدمتها السعودية خلال ذروة الجفاف عام 2010 لتأمين احتياجات مكة وجدة مؤقتًا، كما اعتمدتها اليونان وسنغافورة وأستراليا كحلول طارئة أثناء فترات الجفاف.
هذه السفن يمكنها إنتاج ما بين 50 إلى 150 ألف متر مكعب يوميًا، وهي كميات كافية لتغطية مدينة العقبة بكاملها مع فائض يمكن توجيهه نحو وادي عربة أو المناطق المجاورة.
نحو قرار وطني جريء:
قد يرى البعض أن التحلية عبر السفن حلٌّ مؤقت، لكنه في الواقع خطوة ذكية ضمن إدارة الأزمات. فالأردن لا يملك رفاهية الانتظار حتى اكتمال مشروع "الناقل الوطني" الذي يحتاج لسنوات واستثمارات ضخمة.
التحلية البحرية من خلال السفن تمثل جسر النجاة المؤقت الذي يحافظ على استقرار المملكة مائيًا واقتصاديًا حتى تنضج المشاريع الكبرى.
كما يمكن أن تشكل العقبة مختبرًا وطنيًا للتجربة قبل التوسع لاحقًا نحو منشآت تحلية ثابتة تعمل بالطاقة الشمسية أو النووية مستقبلاً.
إننا نعيش مرحلة غير مسبوقة من الجفاف، وتراجع موارد المياه، وتفاقم آثار التغير المناخي. والسدود التي كانت رموزًا للأمن المائي أصبحت شبه خاوية، والخزانات الجوفية تقترب من حدود الخطر.
إن التحلية عبر السفن ليست مجرد فكرة تقنية، بل قرار سيادي استراتيجي لحماية حياة الأردنيين وضمان أمنهم المائي والاقتصادي.
اليوم، لم يعد السؤال: هل نستطيع التحلية؟
بل أصبح: هل نستطيع الانتظار أكثر؟