الرواشدة يكتب: المكان والهُوية الأردنية في رواية "إسعيدة" للكاتب محمّد عبد الكريم الزيود

المكان والهُوية الأردنية في رواية "إسعيدة" للكاتب محمّد عبد الكريم الزيود.
رمضان الرواشدة
وضع الدكتور محمّد عبد الكريم الزيود بصمته الخاصّة في مجال الإنتاج الروائيّ الأردنيّ، في الفترة الأخيرة، من خلال عملين روائيّين بارزين ولافتين للغاية هما: رواية "فاطمة: حكاية البارود والسنابل" وروايته الجديدة " إسعيدة".
والدكتور الزيود مثله، مثل جيل كبير من كتّاب الرواية والقصّة والأدب الأردنيّ، الّذين ظهروا من بدايات تسعينيّات القرن المنصرم، حتى اليوم، عبّروا في ما كتبوه عن أهمّيّة كبيرة للمكان الأردنيّ والشخصيّة والهُوية الأردنية، دون أيّ انقطاع عن بعدها القوميّ العربيّ وبالذات عن القضية المركزيّة للأردنيّين جميعاً؛ وهي القضيّة الفلسطينيّة.
ويمكن القول إنّ هاتين الروايتين هما روايتا المكان والهويّة والشخصيّة الأردنيّة؛ ففي روايته "فاطمة" الّتي تتنامى أحداثها منذ العام 1948 وحتّى مشاركة الجيش العربي الأردنيّ في معركة القدس في حرب حزيران عام 1967، وما بينهما، تحفل بالحكاية الشعبيّة الأردنيّة والموروث والعادات والأسماء التراثيّة الكثيرة في منطقة سكن قبيلة بني حسن في محيط محافظة الزرقاء…وتسرد سيرة القرية الأردنيّة بكلّ تفاصيلها منذ خمسينيّات القرن العشرين وبمسمّيات حقيقيّة لكلّ ما يتّصل بهذه القرية من تفاصيل الحياة اليوميّة.
وفي روايته "إسعيدة"، التي نناقشها اليوم، نجد، أيضاً أنّ المكان الأردنيّ وهُويّته وشخصيّاته حاضرة بقوّة من خلال سرد روائيّ يتناول مفصّلاً مهمّاً من تاريخ الأردنّ، بشكل عامّ، ومن تاريخ منطقة " أسعيدة" الّتي اتّخذها الروائيّ عنواناً لروايته وللتأريخ للمكان الأردنيّ.
"إسعيدة" وما جرى لها، منذ خمسينيّات القرن المنصرم، وما آلت إليه أوضاعها والتطوّرات الحياتيّة اللاحقة فيها هي حكاية كلّ قرية أردنية عانت من التطوّر الاقتصاديّ المشوّه الّذي أدّى إلى موجة التغريب الاجتماعيّ والسياسيّ وصولاً إلى تهميش الأطراف لصالح المركز دون أيّ التفات إلى أهمّيّة توزيع المكتسبات بين المركز والأطراف.
ترصدُ الروايةُ التحوّلات الاجتماعيّة في منطقة مهمّة خلال فترة الخمسينيّات إلى بداية الثمانينيّات من القرن السابق، حيث تُبنى مصفاة البترول في الأراضي الزراعيّة في قرية "إسعيدة" وهذا نتيجة واحدة من أخطاء كثيرة أدّت إلى هجر المراعي والزراعة والتحاق أبناء القرية للعمل في المصفاة كعمّال وأجراء، وهو ما ينسحب على مناطق أخرى في الأردنّ ترك أهلُها الزراعة، والتحقوا بالعمل عند الآخرين، نتيجة هذه التحولات.
كما أنّ الرواية ترصدُ التحوّلات الاقتصاديّة الّتي مرّ بها الأردنّ من خلال التطوّر في الصناعة والعمران على حساب الأراضي الزراعيّة وهو ما أدّى إلى تشوّهات مخيفة في الاقتصاد الأردنيّ من ناحية أنّنا أصبحنا نعتمد على الأجنبيّ في أكلنا وشربنا بعد أن كنّا نصدر القمح والشعير والخضراوات والفواكه.
والكاتب محمّد عبد الكريم الزيود يرصد بعناية أهمّ الأحداث السياسيّة من هجرة الفلسطينيّين في العام 1948 إلى هزيمة الخامس من حزيران 1967 إلى النصر الكبير الّذي حقّقه الجيش الأردنيّ في معركة الكرامة يوم 21 آذار 1968 من خلال قصّة استشهاد كريّم العليان ابن القرية الّذي ذهب إلى الجنديّة مدافعاً عن بلده الأردنّ. ويبدو أنّ قدرَنا، نحن أبناء العسكر والفلّاحين، أن نموت دفاعاً عن الأردنّ. فنحن مجبولون بحب قيادتنا الهاشمية والأردن والجيش العربي الأردني، ومنذورون للاستشهاد دفاعا عن بلدنا الحبيب وعن قضيتنا المركزية؛ القضية الفلسطينية.
وها أنا أسمع حبيب الزيودي يقول:
" فيا وطنا لو دعانا إلى النار
نجعلُ جمرَ لظاها سلاما.
ويا وطنا لو نخنا على الثار
فزَّ له الشيخ ُ غلاما.
شحذنا الضلوع َ له وبرينا
الزنودَ له في الخطوب سهاما.
سلاما على وطن الطيبين سلاما."
وفي الرواية ثمّة إضاءة على علاقة متشابكة وقديمة بين الشعبين الشقيقين؛ الأردنيّ والفلسطينيّ من خلال قصّة "نوفة" جدّة بطل الرواية قاسم الصالح الّتي هجرتْ، مع أهلها، قريتها قرب رام الله نتيجة العدوان والاحتلال الصهيوني، وجاءت إلى الأردنّ مثلها مثل مئات الآلاف الّذي جاءوا إلى هذا الحمّى العربيّ، وأكرمهم الأردنيّون وأحسنوا رفادتهم.
وعندما يشير الكاتب إلى التغييرات الاجتماعيّة الّتي طرأت على قرية "إسعيدة" بوضوح متناه، فإنّه يشير أيضاً إلى التغييرات الّتي حصلت بطمس المكان الأردنيّ واستبدال أسماء الأماكن الأردنية القديمة، بأسماء جديدة.
فحتّى الصفحة الثمانين من الرواية كنت أفكّر أين هي قرية "إسعيدة"؟ فمعرفتي جيّدة جدّاً بالمكان الأردني، عموما، وبالقرى الّتي تسكن إلى جوارها، خصوصا، ما ذكرته الرواية مثل "غريسا" و" المسرّة" و" العالوك" و"القنِيّة" وغيرها، لاكتشف أنّ المختار طلب من الدولة تغيير اسمها التاريخيّ، فأصبح اسمها " الهاشميّة" الّتي نعرفها اليوم قرب موقع مصفاة البترول الأردنية.
وهذا الأمر تكرّر كثيراً في قرى وأماكن أردنية أخرى جرى استلابها من هويّتها وذاكرتها وأسمائها القديمة لأسماء جديدة.
نحن أمام رواية تؤرّخ للمكان الأردنية؛ بهُويته وشخوصه الذين نحسبهم من لحم ودم، وهي روايةٌ جديرةٌ بالاقتناء والقراءة. وفي الختام كل التهنئة أولا: للأدب والرواية الأردنية على هذا المنجز الروائي، وثانيا: للكاتب محمد الزيود الذي أبدع في روايته، وننتظر منه كل جديد، ليحدثنا عن مكان أردني آخر وشخصيات اردنية أخرى لعل الرواية تكون سلوتنا التي نهاجر إليها، من الواقع المرير الأليم الذي وصلنا إليه، ولكن ليس بإرادتنا.