الفرجات يكتب: إدارات جامعية تتخبط بمفهوم البحث العلمي

إدارات جامعية تتخبط بمفهوم البحث العلمي
كتب أ.د. محمد الفرجات
يتواصل معي بشكل متكرر عبر رسائل وشكاوى من زملاء أكاديميين حديثي التعيين نسبيا في جامعات مختلفة (حكومية وخاصة)، يعبرون فيها عن معاناتهم من سياسات إدارية باتت تربط تثبيتهم أو تجديد عقودهم أو تمديد خدمتهم بعدد الأبحاث المنشورة في مجلات علمية محكمة. ويؤكدون أن هذا الشرط، وإن بدا في ظاهره مطلبًا منطقيًا، إلا أنه في حقيقته يمثل تبسيطًا مخلًا لمفهوم البحث العلمي، وتحويله من رسالة عميقة إلى مجرد أرقام تُدرج في ملفات إدارية أو إحصائيات تصنيف.
جوهر البحث العلمي:
الأستاذ الجامعي في الأصل باحث، لا ينفصل تدريسه عن إنتاجه المعرفي. والبحث العلمي هو وسيلته لتطوير ذاته وفكره، وانعكاس ذلك على طلبته ومجتمعه، فضلًا عن رفع مكانة جامعته عالميًا. غير أن البحث ليس هدفًا بحد ذاته، وإنما وسيلة لإنتاج معرفة جديدة، وحلول لمشكلات وطنية، وفرص اقتصادية قائمة على الابتكار.
إن ربط مسيرة الأكاديمي بكمّ الأوراق المنشورة، بعيدًا عن مضمونها أو أثرها، يُنتج أبحاثًا سطحية، ويُفرغ العملية البحثية من معناها الحقيقي.
مخاطر النهج الكمي:
هذا النهج يدفع بعض الأساتذة إلى التسرع في إنتاج أوراق بحثية غير عميقة، أو نشرها في مجلات ضعيفة، أو حتى السقوط في فخ المجلات الوهمية، فقط من أجل تلبية شرط إداري. كما يثبط الباحثين الجادين الذين ينخرطون في مشروعات نوعية طويلة الأمد، قد تحتاج إلى سنوات وجهود وتمويل معتبر، لكنها ذات أثر استراتيجي على المجتمع والدولة.
النتيجة هي تضخم عددي في الأبحاث المنشورة، دون قيمة حقيقية تضيف للعلم أو الوطن.
النماذج العالمية: كيف تُدار سياسات البحث العلمي؟
الولايات المتحدة: يعتمد نظام التقييم على تنوع الإنتاج البحثي، فلا يُختزل في النشر فقط، بل يشمل حجم التمويل البحثي الذي يجلبه الأستاذ من مؤسسات داعمة (grants)، وعدد براءات الاختراع، والأثر المجتمعي للبحوث. جامعات مثل MIT وStanford تبني سمعتها على ربط البحث بالتكنولوجيا والابتكار وريادة الأعمال.
أوروبا: تتبنى العديد من الدول الأوروبية ما يُعرف بـ Research Assessment Exercises مثل بريطانيا، حيث يتم تقييم جودة البحث (quality) أكثر من كميته، مع التركيز على أثره في المجتمع والسياسات العامة والصناعة. كما تمنح الجامعات مساحات زمنية أطول لتطوير مشروعات بحثية معمقة.
آسيا (اليابان وكوريا الجنوبية): تربط الجامعات بين البحث العلمي ومتطلبات التنمية الصناعية والتكنولوجية، بحيث يُشجع الأكاديمي على التعاون مع القطاع الصناعي، وتُقيم أبحاثه بمدى مساهمتها في الابتكار وتحويل المعرفة إلى منتجات وخدمات قابلة للتسويق.
نحو تقييم أكثر عدالة وفعالية:
إن الاقتصار على النشر كمعيار وحيد يعكس سوء فهم لمفهوم البحث العلمي.
المطلوب تشكيل لجان علمية رفيعة داخل الجامعات ووزارات التعليم العالي، تتولى تقييم البحوث بمنهجية شمولية تأخذ بعين الاعتبار:
جودة البحث ومنهجيته وأصالته.
المخرجات التطبيقية، مثل براءات الاختراع أو الحلول التقنية.
المشاركة في مشروعات وطنية أو إقليمية كبرى.
الأثر التعليمي للبحث في تطوير المناهج والطلبة.
مساهمته في خدمة المجتمع والسياسات العامة.
إن البحث العلمي ليس رقمًا يُحسب، بل قيمة معرفية تُبنى وتُترجم إلى حلول وابتكارات. وربط مصير الأستاذ الجامعي بعدد الأبحاث المنشورة هو اختزال مخل، لا يليق بدور الجامعات كحاضنات فكرية للعلم والإبداع.
إذا أردنا لجامعاتنا أن تكون مؤسسات حقيقية منتجة للمعرفة وقاطرة للتنمية، فعلينا أن نتبنى رؤية أعمق وأكثر عدالة، تُعيد الاعتبار للبحث العلمي كرسالة حضارية لا كشرط إداري.