الفرجات يكتب: أزمة الازدحام في الأردن.. تشخيص وحلول لظاهرة محيرة

الفرجات يكتب:  أزمة الازدحام في الأردن..  تشخيص وحلول لظاهرة محيرة
الفرجات يكتب: أزمة الازدحام في الأردن.. تشخيص وحلول لظاهرة محيرة

كتب أ.د. محمد الفرجات

أزمة الازدحام في الأردن: تشخيص وحلول لظاهرة محيرة

يبلغ عدد سكان الأردن اليوم حوالي 11 مليون نسمة فقط، وهو رقم متواضع جدا مقارنة مع دول أخرى يبلغ عدد سكانها بضعة عشرات أو مئات الملايين. 

الكثافة السكانية على أرض الواقع ليست مرتفعة جدًا، إذ أن المساحة المأهولة من المملكة لا تزال تحتمل أضعاف هذا العدد. ومع ذلك، فإن الأردني يواجه يوميًا مشهدًا متكررًا لا يخلو من الضيق والتوتر: أزمة في كل مكان تقريبًا.

في الأسواق والأحياء السكنية ترى الناس يتنافسون على أماكن الاصطفاف. عند المخابز تجد طوابير طويلة وزحامًا خانقًا. المولات تعاني ازدحامًا في مواقفها وممراتها. شوارع وسط البلد، والأحياء، وحتى الطرق الرابطة بين القرى والمدن، كلها مشبعة بالسيارات. الإشارات المرورية تتحول إلى مسارح للزوامير والاصطدام بالأعصاب. 

في المستشفيات هناك أزمة مراجعين تكاد لا تنتهي، وفي الدوائر الحكومية الطوابير لا تقل ازدحامًا. حتى الأماكن الترفيهية التي يُفترض أن تكون متنفسًا للراحة صارت مزدحمة بشكل لافت.

ولعل أكثر المشاهد اليومية وضوحًا هي الأزمة أمام المدارس عند توصيل الأبناء أو إعادتهم إلى المنازل، حيث تتكدس السيارات بشكل يعيق السير ويولّد فوضى في الأحياء. وفوق ذلك، فإن السلوكيات المرورية السائدة – من سرعة عالية، وتجاوز غير مبرر، واستخدام مفرط للزوامير، وعصبية زائدة – تزيد من حدة الإحساس بالأزمة وتجعلها أكثر إرهاقًا.

العجيب أن هذه الظاهرة ليست محصورة في عمّان الكبرى أو الزرقاء أو إربد، حيث التركز السكاني الأكبر، بل تراها أيضًا في مدن يقل عدد سكانها بكثير، مثل العقبة، ولواء البترا، وقصبة معان، ومادبا، والطفيلة، والكرك. وهذا ما يكشف أن السبب ليس "عدد السكان" فقط، بل إن المسألة أعقد وأعمق من ذلك.

الأسباب الكامنة وراء الظاهرة متعددة. أول الأسباب وأكثرها وضوحًا هو الاعتماد المفرط على السيارة الخاصة. فالنقل العام في الأردن ما يزال بدائيًا وضعيفًا وغير جاذب للمواطن. الحافلات غير منتظمة في مواعيدها، والرحلات قليلة، والوسائل المتاحة لا تعكس الراحة ولا الأمان المطلوبين. 

أمام هذا الواقع، يصبح الحل الطبيعي لكل فرد هو امتلاك سيارة خاصة، حتى لو كان المشوار قصيرًا أو يمكن إنجازه سيرًا على الأقدام. النتيجة: كثافة غير منطقية للمركبات في الشوارع.

ثانيًا، هناك تمركز زماني للأنشطة اليومية. المدارس تبدأ في وقت واحد تقريبًا، الجامعات كذلك، والدوام الرسمي للمؤسسات يبدأ في السابعة والنصف أو الثامنة صباحًا، ويعود الجميع عند الثانية أو الثالثة ظهرًا. 
هذا التزامن يخلق "قمم مرورية" خانقة، تتكرر يوميًا مرتين، وتصبح خلالها الشوارع غير قادرة على الاستيعاب.

ثالثًا، التخطيط الحضري في مدننا لم يتزامن مع تخطيط مروري مسبق. التوسع العمراني تم بطريقة أفقية، والشوارع غالبًا ضيقة، والأرصفة محتلة، ومواقف السيارات قليلة أو معدومة. هذا النمط من التخطيط لم يضع في حساباته النمو السريع لعدد المركبات، ولا التغير في سلوك الناس الذين أصبحوا يعتمدون أكثر فأكثر على التنقل الفردي.

رابعًا، السلوكيات الفردية للمواطنين نفسها تشكل جزءًا من الأزمة. الاصطفاف المزدوج، الوقوف العشوائي، الدخول في مسارب خاطئة، تجاوز الدور، الإفراط في السرعة، العصبية الزائدة، كلها عوامل تضاعف الضغط وتطيل زمن الازدحام. وكأن الأزمة البنيوية في البنية التحتية والنقل تضاعفت بأزمة سلوكية يومية.

خامسًا، غياب الإدارة الذكية للحركة المرورية. ففي كثير من الدول الأكثر كثافة سكانية، يتم التحكم بالحركة عبر إشارات ضوئية مرتبطة بالزمن الحقيقي، وأنظمة مراقبة بالكاميرات، وإدارة متكاملة للمواقف، وتشجيع وسائل النقل الجماعي. في الأردن ما يزال الاعتماد على الإشارات التقليدية والإجراءات اليدوية، مما يزيد الفجوة بين الحاجة والحلول.

وربما أكثر ما يثير الحيرة هو أنه حتى في ساعات الدوام الرسمي – أي عندما يُفترض أن يكون الطلاب في مدارسهم وجامعاتهم، والموظفون في مكاتبهم – لا تزال الشوارع مزدحمة بشكل غير مبرر. وهنا يطرح الأردني تساؤله الطريف: "إذا كان معظم الناس في أماكن عملهم ودراستهم، فمن هم هؤلاء الذين يملؤون الشوارع؟ هل يسكن بيننا أقوام غير مرئية تخرج خصيصًا لخلق الأزمات؟ أم أن سياراتنا لا تركن أصلًا وتستمر في الدوران من تلقاء نفسها؟"

الإجابة العلمية بسيطة: هي ليست أقوامًا خفية ولا سيارات سحرية، بل إن الأزمة تنشأ من عدة عوامل مجتمعة: الرحلات القصيرة غير الضرورية خلال ساعات الدوام مثل شراء خبز أو قهوة أو إنجاز معاملة سريعة، استمرار حركة البضائع والشاحنات الخفيفة في نفس توقيت الذروة، اعتماد بعض القطاعات غير الرسمية على التنقل اليومي المكثف، غياب بدائل آمنة للمشي أو استخدام الدراجات، وأخيرًا الاستهتار بتوزيع التوقيت والاعتماد على السيارة حتى في أوقات يفترض أن تكون الشوارع أقل ازدحامًا. لكن التساؤل الشعبي يبقى معبّرًا، لأنه يلخص حالة الارتباك العامة بين "عدد سكان قليل نسبيًا" و"ازدحام يفوق ما تحتمله المدن الكبرى".

إن حل هذه الظاهرة يتطلب حزمة متكاملة من الإجراءات. أولًا، تطوير النقل العام بشكل جذري. لا بد من شبكة حافلات حديثة ومنتظمة ومريحة، مع دراسة إدخال أنظمة مترو خفيف أو باصات سريعة التردد في المدن الكبرى، لتكون بديلًا حقيقيًا مغريًا للمواطن. ثانيًا، إعادة النظر في توقيت الدوام المدرسي والجامعي والوظيفي، بحيث يتم توزيع الأوقات على فترات مختلفة. 
تجربة بعض الدول أثبتت أن مجرد تغيير بسيط في مواعيد الدوام يقلل من حدة الذروة بنسبة ملحوظة. ثالثًا، تحسين البنية التحتية الحضرية: فتح شوارع جديدة، توسيع الطرق، تنظيم مواقف السيارات، إزالة التعديات على الأرصفة، وتشجيع النقل النشط كالمشي وركوب الدراجات.

رابعًا، تقليل الاعتماد على السيارة الخاصة من خلال فرض رسوم ذكية على الاصطفاف العشوائي، وتوفير بدائل نقل عام بأسعار تنافسية ومشجعة. 
خامسًا، إدخال التكنولوجيا الذكية إلى إدارة المرور: إشارات ضوئية متصلة، أنظمة مراقبة وتحكم، تطبيقات لإدارة المواقف، وحلول رقمية لحركة النقل. 
سادسًا، تعزيز التوعية المجتمعية، إذ لا يمكن لأي بنية تحتية أن تنجح إذا لم يتغير السلوك العام. يجب نشر ثقافة احترام الطريق، والالتزام بالقوانين، والتعامل مع الشارع باعتباره ملكًا عامًا وليس ساحة للمنافسة.

الأردن ليس دولة مكتظة سكانيًا، لكنه دولة تعاني من ازدحام ناتج عن خلل في التنظيم والسلوك أكثر مما هو نتيجة طبيعية للعدد. الأزمات اليومية ليست قدرًا محتومًا، بل هي انعكاس لسياسات نقل ضعيفة، وتخطيط حضري غير ملائم، وسلوكيات فردية متراكمة. وبين التشخيص العلمي الجاد، والتساؤل الشعبي الطريف: "من هؤلاء الذين يملؤون الشوارع في وقت دوام الطلاب والموظفين؟"، تكمن الحقيقة. نحن من نصنع الأزمة بسلوكنا وبنمط حياتنا، ونحن وحدنا القادرون على حلها إذا توافرت الإرادة والجدية في التخطيط والتنفيذ.