الفرجات يكتب : العقبة تشعل شرارة التغيير.. منظومة نقل جماعي أردنية تضاهي مدن العالم المتقدم
بشرى لجلالة الملك وشعبه من العقبة... وأخيرا منظومة النقل الجماعي تتحسن
كتب أ.د. محمد الفرجات
قبل أيام، كتبت مقالي المتشائم "دبّروا حالكم... سامحونا، الباص شكله طلع مع الفاردة!"، وكنت أعبّر فيه عن وجع المواطن الأردني من فوضى النقل العام، وعن معاناة الناس اليومية مع غياب الحافلة المنظمة والوقت المحدد والمسار المعلوم.
لكن ما رأيت اليوم لدى العقبة أثلج صدري، وأعاد لي الأمل بأن التغيير ممكن حين تتوافر الإرادة والرؤية والإدارة.
فقد تواصل معي المدير التنفيذي لشركة العقبة للنقل والخدمات اللوجستية عطوفة السيد خالد مرسي، ودعاني لزيارة ميدانية للاطلاع على تجربتهم المتميزة في تحقيق منظومة نقل جماعي عصرية في مدينة العقبة... كانت الدعوة صادقة، والنتائج مبهرة.
من الصفر... إلى منظومة تُضاهي مدن أوروبا:
بدأت الشركة، المملوكة بالكامل لمفوضية العقبة الاقتصادية الخاصة، رحلتها قبل نحو عقدٍ ونصف من الصفر، واضعة خطة استراتيجية طموحة لتطوير النقل في المدينة.
اليوم، تسير حافلاتهم الحديثة بانتظامٍ وترددات دقيقة المواعيد، تنطلق من محطات معلومة وتتوقف عند نقاط محددة، تمامًا كما يحدث في المدن المتقدمة.
سائقو الحافلات يخضعون لدوراتٍ متخصصة في مهارات الاتصال، والانضباط، والسلامة العامة، ويرتدون زيًا موحدًا أنيقًا يعكس هوية مهنية واحترامًا للراكب والمدينة.
أما التغطية، فشاملة: تمتد من الأحياء السكنية إلى المناطق الصناعية، ومن الموانئ إلى الجامعات والكليات والمواقع السياحية، بحيث أصبح النقل الجماعي في العقبة وسيلة موثوقة ومريحة لكل فئات المجتمع.
غرفة تحكم ذكية تليق بعصر الرقمنة:
في غرفة العمليات رأيت نظامًا رقميًا متكاملًا مزودًا بشاشات كبيرة، تُظهر خريطة العقبة عبر الأقمار الصناعية، تتحرك عليها الحافلات في الوقت الحقيقي.
بنقرة واحدة على أي حافلة، تظهر كل المعلومات:
عدد الركاب، اسم السائق، وقت الانطلاق والوصول، الخط، وحالة المركبة الفنية.
النظام يعتمد على تقنيات GPS وGIS، ويرتبط بخادم مركزي يتيح متابعة الأداء بدقة لحظة بلحظة.
الحافلات مزوّدة بعدة كاميرات مراقبة، سيُضاف إليها قريبًا ذكاء اصطناعي لتحليل سلوك السائقين والركاب وتعزيز معايير السلامة العامة.
السرعة مضبوطة آليًا، والصيانة تُجرى بشكلٍ دوري، وفق قائمة فحص دقيقة تشمل النظافة، الجاهزية، والأمان.
خدمات إلكترونية راقية بأسعار في متناول الجميع:
النظام المالي والتشغيلي يعتمد الدفع الإلكتروني باستخدام بطاقات ذكية وتطبيقات الهاتف المحمول، بأسعار رمزية تناسب الطلبة والمواطنين والسياح.
يمكن للراكب، عبر التطبيق، معرفة موعد وصول الحافلة وعدد الركاب داخلها ومسارها بالتفصيل، بل وحتى الدفع إلكترونيًا دون التعامل النقدي.
إدارة علمية ومجتمعية:
الأجمل أن الشركة لا تكتفي بالتشغيل، بل تُقيم أداءها عبر مؤشرات قابلة للقياس، وتُحدث خدماتها باستمرار استنادًا إلى تغذية راجعة من الطلبة، والمجالس الطلابية، ولجان الأحياء.
وقد أثبتت التقارير الميدانية أن هناك زيادة شهرية ملحوظة في عدد الركاب، ما يعكس ارتفاع الثقة والشعور بالاحترام والكرامة والانضباط بين مستخدمي الحافلات.
أثر بيئي واجتماعي عميق:
من الواضح أن نجاح منظومة النقل في العقبة لا يقتصر على الراحة والتنظيم، بل يمتد إلى البيئة والمجتمع.
فكل حافلة تقلّ خمسين راكبًا تغني عن خمسين سيارة خاصة، مما يعني:
انخفاض الازدحامات داخل المدينة،
تراجع انبعاثات الغازات الدفيئة،
تقليل التلوث والضجيج والحوادث،
ورفع مستوى الرضا المجتمعي والسلم الاجتماعي.
بهذه الخطوات العملية، تسهم العقبة بفعالية في الحد من أسباب التغير المناخي، وتقدّم نموذجًا أردنيًا فريدًا للنقل المستدام الذي يجمع بين الكفاءة والكرامة والبيئة النظيفة.
دعم القيادة والرؤية الملكية:
ما تقوم به شركة العقبة للنقل والخدمات اللوجستية يتناغم تمامًا مع توجيهات جلالة الملك عبدالله الثاني الأخيرة للحكومة في خطاب العرش السامي، والتي شدّد فيها على ضرورة إيجاد منظومة نقل تليق بالمواطن والدولة وتواكب تطلعات التحديث والإصلاح.
نموذج يُحتذى به:
هذه التجربة، التي نجحت بفضل كوادر الشركة ودعم مفوضية العقبة وتعاون المؤسسات والمجتمع المحلي، ليست قصة نجاح محلية فحسب، بل بداية تحول وطني يستحق أن يُعمم على جميع محافظات المملكة.
فما تحقق في العقبة يمكن أن يتحقق في عمّان، وإربد، والزرقاء، والكرك، ومعان، والبادية، وكل قرية ومخيم، حين تتوحد الجهود وتُبنى الرؤية على أسس علمية وإدارية صحيحة.
لقد كتبت عشرات المقالات التي ناديت فيها بتحسين واقع منظومة النقل الجماعي في الأردن، وكنت أرى الحلم بعيدًا...
لكن اليوم، وأنا أرى النور يسطع من العقبة، أقول بثقة:
ها هو الحلم يبدأ من الجنوب، من مدينة البحر والجبال، من مدينة الإرادة التي لا تعرف المستحيل.
بشرى لجلالة الملك وشعبه الوفي... فالعقبة تقود التغيير، وتمنحنا الأمل بأن النقل الجماعي في الأردن بدأ يتحسن حقًا.




