الفرجات يكتب: شعب لا يمشي.. مستشفيات تعج بالمراجعين كلف إقتصادية للعلاج ومسألة أمن قومي 

الفرجات يكتب: شعب لا يمشي.. مستشفيات تعج بالمراجعين  كلف إقتصادية للعلاج ومسألة أمن قومي 

شعب لا يمشي: مستشفيات تعج بالمراجعين، كلف إقتصادية للعلاج، ومسألة أمن قومي 

بقلم أ.د. محمد الفرجات

في النفير العام يدعى كل من يستطيع حمل السلاح للذود عن الوطن، كقوة مساندة للجيش، وحديثنا هنا عن هؤلاء... أي عن الاحتياط... 

فإذا أردنا أن نعدّ شعبنا، وشبابنا على وجه الخصوص، لمواجهة الطوارئ والأزمات والحروب، فإن أول ما يجب أن نضعه على الطاولة هو صحتهم الجسدية وقوة تحملهم وبنيتهم البدنية. فقيمة السلاح ومعدات وخطط طوارئ، تتطلب أن لا يكون الاحتياط منهكاً صحياً، ضعيف العضلات، مرهق الرئة، متعب القلب. 

إن إعداد الأجيال لمستقبل آمن يبدأ من ثقافة المشي والحركة اليومية التي تبني جسداً قوياً وروحاً صلبة.

لكن الواقع في الأردن يحتاج التغيير بهذا الخصوص:
- شبابنا يسهرون الليل،
- يلهثون خلف الأرجيلة والدخان،
- يقضون الساعات أمام الشاشات،
- ويهجرون المشي الذي هو أبسط وأرخص وصفة للصحة.

والنتيجة قد تكون: أمراض مزمنة، سمنة مفرطة، كسل عام، وهدر لرأس المال البشري الذي يمثل أعظم ثروة وطنية.

الأرصفة المغتصبة والفراغ القاتل:

المشي عندنا ليس ثقافة، بل معركة يومية مع الأرصفة المغتصبة من السيارات والمحال التجارية والبناء العشوائي. 

المواطن يريد أن يمشي لكنه لا يجد ممراً آمناً ولا بيئة مشجعة. والنتيجة أن السيارة تصبح الخيار الوحيد، فيتعمق الكسل، وتُقتل أبسط ممارسة صحية كان يمكن أن تكون طوق نجاة.

المشي… دواء مجاني وحصن وطني

المشي ليس مجرد حركة بدنية، بل هو دواء متاح:
- يقوي القلب والعظام والعضلات،
- ينشط جهاز الدوران والأعصاب،
- يرفع المناعة ويضبط كيمياء الدماغ،
- يحسن الصحة العقلية والنفسية.

وهو أكثر من ذلك: المشي يصنع جيلاً قادراً على التحمل، مستعداً للعمل والإنتاج، واحتياطاً وطنياً عند الأزمات.

فاتورة اقتصادية مرهقة:
إن تردي الصحة العامة بسبب قلة الحركة وغياب ثقافة المشي لا يقتصر على المعاناة الجسدية والنفسية، بل يترجم إلى فاتورة اقتصادية ثقيلة. فالحكومات تتكبد مليارات على علاج أمراض كان يمكن الوقاية منها بالمشي، مثل أمراض القلب والسكري والسمنة والسرطان. أما الأسر، فتنزف مدخراتها على الدواء والمراجعات الطبية والإجازات المرضية. هذه كلف يمكن تجنبها بخطوات بسيطة يومياً، لكنها تغيب في غياب الرؤية والوعي.

وفق تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2022، إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لتشجيع النشاط البدني فإن تكلفة علاج الحالات الجديدة من الأمراض غير المعدية المرتبطة بقلة الحركة ستبلغ حوالي 27 مليار دولار سنوياً، وستصل التكلفة العالمية الإجمالية بحلول عام 2030 إلى نحو 300 مليار دولار إذا استمرت الوضع كما هو. 
دراسة أخرى أشارت إلى أن تجاهل النشاط البدني سيسبب ظهور نحو 499 مليون حالة جديدة من الأمراض غير المعدية بين عامي 2020 و2030، مع تكاليف مباشرة تتجاوز 520 مليار دولار خلال تلك الفترة. 

الوزارات: مسؤوليات موزعة...
هذه ليست قضية فردية فقط، بل قضية وطنية تحتاج إلى تدخل مباشر من وزارات الدولة، كلّ في مجاله:

وزارة الداخلية: فرض القوانين التي تحمي الأرصفة من التعديات وتضمن بيئة آمنة للمشاة في كل المدن والقرى.

وزارة الصحة: إطلاق حملات وطنية للتوعية بفوائد المشي وربطه بالوقاية من أمراض القلب والسكري والسمنة والسرطان.

وزارة التربية والتعليم: غرس ثقافة المشي في المناهج والأنشطة المدرسية، وتخصيص حصص يومية للنشاط الحركي في المدارس.

وزارة الشباب: تنظيم مسيرات وبرامج شبابية دورية، تربط المشي بالهوية والانتماء وروح الجماعة.

وزارة الأشغال العامة والإسكان ووزارة الإدارة المحلية: إعادة تصميم المدن والطرقات بما يضمن ممرات مشاة آمنة وواسعة ومظللة.

وزارة الزراعة: إنشاء مسارات مشي خضراء في الأحراش والحدائق والمتنزهات العامة لتشجيع الناس على الخروج للطبيعة.

وزارة التخطيط والتعاون الدولي: إدماج ثقافة المشي في الخطط التنموية والمشاريع الممولة دولياً كأولوية للصحة العامة.

وزارة النقل: تقليل الاعتماد على السيارة عبر أنظمة نقل عام فعالة، لتشجيع الناس على المشي للوصول إلى محطات النقل.

الخاتمة: معادلة الأمن الصحي والوطني:
إن معادلتنا اليوم تحمل مجهولاً خطيراً: أين صحة الشعب من أولويات الدولة؟
فالقوة لا تُبنى بالدبابات فقط، بل تبدأ من جسد قوي قادر على العمل، ومن شاب يتحمل المشاق لا ينهار عند أول اختبار. 

إن إحياء ثقافة المشي هو استثمار استراتيجي في الأمن الوطني والصحة العامة والتنمية الاقتصادية.

لنحرر الأرصفة، ولننشر ثقافة المسير، ولنحوّل المشي إلى سلوك يومي. فخطوة واحدة على الرصيف اليوم، قد تعني حياة أقوى، وأمة أصلب، وغداً أكثر أمناً.