الفرجات يكتب: الرسومات الجدارية والفسيفساء الأردنية.. شيفرة مناخية وبيئية

الرسومات الجدارية والفسيفساء الأردنية.. شيفرة مناخية وبيئية
كتب أ.د. محمد الفرجات
في عمق صحاري الأردن وقصوره الأموية، وعلى أرضيات كنائسه البيزنطية، تنطق جدران الحجر القديم بلغة علمية غنية تتجاوز الجمال الفني إلى توثيق بيئي ومناخي فريد. ما خُطّ على جدران قصر عمرة والمشتى والحلابات، أو نُقش على فسيفساء كنائس مادبا وأم الرصاص وخريطة الأرض المقدسة، هو بمثابة "أرشيف بصري" يشهد على تنوع حيوي مذهل وحقبة مناخية مختلفة جذريًا عمّا نعيشه اليوم.
أدلة بصرية على مناخ أخصب وأكثر رطوبة:
تُظهر هذه الرسومات وجود كائنات لم تعد تعيش في بيئتنا: الأسود، الفهود، الدببة، النعام، الغزلان، الطيور المائية، وحتى بعض القوارض والزواحف. وهذا يوحي بأن الأردن كان يتمتع بمناخ أكثر اعتدالًا ورطوبة خلال القرون الميلادية الأولى، وصولًا إلى العصر الأموي.
تشير تحاليل مناخية مقارنة إلى أن معدلات الهطول في تلك الفترات تراوحت بين 400 إلى 600 ملم في مناطق مثل البلقاء ومادبا وشمال الكرك، وأن درجات الحرارة كانت أخف صيفًا بسبب الغطاء النباتي والأراضي الرطبة التي كانت توازن حرارة الصيف الصحراوي.
البيئات القديمة كما توثقها الرسومات:
من خلال مقارنة المواقع الجغرافية للقصور والكنائس مع مضامين الرسوم، يمكننا استخلاص التالي:
الصحراء الشرقية (قصر عمرة وقصر الحلابات)
رسومات للأسود، الفهود، النعام: دلالة على بيئة سافانا جافة ولكن حيوية، فيها واحات وأراضٍ عشبية.
السهول المرتفعة (مادبا، الكرك، الحسا)
رسومات الغزلان والطيور البرية: تدل على وجود أراضٍ رعوية وغابات مفتوحة، ومناخ شبه متوسطي.
الوديان والينابيع (وادي الموجب، الزرقاء، الأزرق)
طيور مائية، أسماك، أزهار: تؤشر إلى نظم مياه سطحية، ومناطق رطبة، وتنظيم زراعي متطور.
الشمال الجبلي (جرش، عجلون، أم قيس)
دببة، خنازير برية، ثعالب: دلالة على غابات كثيفة، وتنوع نباتي، وبيئة معتدلة الحرارة.
تحليل إيكولوجي للكائنات المصوّرة
1. الأسد (Panthera leo)
غذاؤه: غزلان، حمير برية، نعام.
بيئته: أراضٍ عشبية مفتوحة تتطلب كثافة طرائد ومصادر ماء.
دلالته: وجود هرم غذائي متكامل وكتلة حيوية ضخمة.
2. الفهد الصياد (Acinonyx jubatus)
غذاؤه: طرائد سريعة مثل الغزلان والأرانب.
بيئته: أراضٍ منبسطة، نباتات قصيرة، حرارة معتدلة.
دلالته: وفرة في التنوع الحيواني متوسط الحجم.
3. الدب البني السوري
غذاؤه: الفواكه، النباتات، اللحوم، العسل.
بيئته: غابات باردة معتدلة، منابع مياه.
دلالته: مناخ بارد نسبيًا وغابات كثيفة.
4. النعام السوري
غذاؤه: نباتات وشجيرات.
بيئته: سافانا وشبه صحارى خضراء.
دلالته: وجود رطوبة كافية لنمو نباتات رعوية.
5. الغزال العربي والمها
غذاؤه: أعشاب، أوراق، نباتات رعوية.
بيئته: مناطق شبه قاحلة فيها غطاء نباتي.
دلالته: إنتاج نباتي كافٍ لتغذية قطعان كبيرة.
6. الطيور المائية (بط، لقلق، إوز)
غذاؤها: أعشاب مائية، قواقع، أسماك صغيرة.
بيئتها: بحيرات، وديان، أهوار.
دلالتها: استدامة مصادر المياه السطحية.
تقدير الكتلة الحيوية القديمة:
الأسد الواحد يحتاج إلى نحو 3,000 كغ من اللحوم سنويًا.
الغزال الواحد يستهلك نحو 1,000 كغ من الأعشاب سنويًا.
لإعالة 10 أسود، نحتاج إلى:
150 غزالًا سنويًا (تقريبًا)، أي حوالي 150,000 كغ من العشب.
مما يعني إنتاج نباتي بأكثر من 1000 كغ/هكتار في الأراضي الغنية.
وهذا يشير إلى كتلة حيوية ضخمة دعمها مناخ خصب وتنوع نباتي عالي.
سياحة بيئية ثقافية قائمة على علم المناخ
إن ترجمة هذه الرسومات إلى لغة علمية وسياحية تمكّن من تطوير منتج فريد من نوعه عالميًا، يجمع بين:
السياحة البيئية التاريخية: مسارات بين القصور الصحراوية والكنائس البيزنطية لفهم بيئة الأردن القديمة.
السياحة التعليمية التفسيرية: إنشاء متاحف تفاعلية لشرح التنوع الحيوي القديم ودور المناخ فيه.
السياحة التفسيرية الجيولوجية: ربط هذه الرسومات بالتحولات الطبوغرافية والهيدرولوجية القديمة.
مثل هذه السياحة ستجعل من الأردن مختبرًا مفتوحًا لفهم التغير المناخي والتنوع الحيوي في العصور القديمة، كما تفتح المجال للسياحة المستدامة ذات القيمة العالية.
الرسومات الجدارية والفسيفسائية ليست ترفًا بصريًا، بل وثائق علمية حية توثق تنوعًا بيئيًا ومناخيًا هائلًا، تُمكّن الباحثين من استعادة ذاكرة الطبيعة. إدماج هذه المعرفة في مسارات سياحية وثقافية وتربوية هو استثمار في وعي الأجيال، وفي الهوية البيئية للأردن، وفي اقتصاد المعرفة والسياحة الذكية.